حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع: خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير
حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع: خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير ، بتاريخ: 25 ربيع الأول 1441هـ – 22 نوفمبر 2019م
لتحميل خطبة بعنوان : حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع ، خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير :
لتحميل خطبة بعنوان : حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع ، خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة بعنوان : حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع ، خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير ، بصيغة pdf أضغط هنا.
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
ولقراءة خطبة بعنوان : حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع ، خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير : كما يلي:
عناصر خطبة بعنوان : حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع ، خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير :
العنصر الأول: أهمية تقديم المصلحة العامة على الخاصة
العنصر الثاني: صور مشرقة من حماية الملكية العامة في الإسلام
العنصر الثالث : خطورة الفتوى في شئون المسلمين بغير علم
المقدمة: أما بعد:
خطبة بعنوان : حماية الشأن العام والملكية العامة وأثره في استقرار المجتمع
العنصر الأول: أهمية تقديم المصلحة العامة على الخاصة
عباد الله: إن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد وحفظ الشأن العام والملكية العامة وحمايتها . يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: « وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل»[الموافقات].
ويقول الإمام ابن القيم:« إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل »[إعلام الموقعين].
فالشريعة الإسلامية السمحة جاءت لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، وهذا هو الهدف من بعثة الأنبياء عليهم السلام؛ حيث كان الإصلاح هو سبيل أئمة المصلحين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو منهجهم، فشعيب عليه السلام يقول لقومه: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود: 88]، وأوصى موسى عليه السلام أخاه هارون فقال: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف: 142]، وبين جل وعلا الفارق العظيم بين أهل الإصلاح وأهل الفساد فقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28].
ومن المعروف في أصول الفقه أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة :
فتعالوا بنا في هذا العنصر لنقف مع حضراتكم مع صور ونماذج مشرقة لسلفنا الصالح وكيف كانوا يطبقون مبادئ الإسلام في تقديم المصالح العامة على الخاصة في ضوء فقه الأولويات !!
فمن الأمثلة التطبيقية في حياة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء في الحديث الشريف: عن عَائِشَةَ :” أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِى عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ:
إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا، إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا “.[البخاري ومسلم].
والحديث الشريف يتضمن المحافظة على المصالح الخاصة:
وتتمثل في عدم التعدي على حقوق الآخرين، وإيذائهم بسرقة أموالهم، كما يتضمن المحافظة على المصالح العامة بتطبيق الحق العام، وهو إقامة حد السرقة على السارق، وفيه ردع لكل من تسوّل له نفسه التعدي على حقوق الآخرين سواء عامة، أو خاصة.
فالله تعالى عزيز حكيم في تشريع ذلك الحكم والحد لحماية المصالح الخاصة والعامة معاً ؛ قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 38، 39] .
يقول الإمام القرطبي –رحمه الله :
إن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها، ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها . ” ( تفسير القرطبي ) .
فتشريع الحدود والعقوبات الرادعة والقصاص فيه حياة للأمة ؛ وحفاظ على الملكية العامة ؛ كما قال تعالى : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [البقرة: 179] فتشريع القصاص مصلحة مؤكدة للناس , لأن فيه زجرا وردعا لمن تسول نفسه الاعتداء على أرواح الناس , فتحفظ حياتهم بذلك , وقول الله تعالى في تعليل النهي عن الخمر والميسر {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة: 91] فالنهي عن الخمر والميسر يحقق مصلحة مؤكدة هي دفع ما يريد الشيطان إيقاعه بين المسلمين من عداوة وبغضاء وصد عن ذكر الله وعن الصلاة …..
ومن الأمثلة المشرقة في حياة سلف الأمة، ما قام به الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه:
في المحافظة الشديدة على المصالح العامة، فمن مواقفه المعروفة: أن ابنه عبد الله بن عمر – رضي الله عنه -: اشترى إبلاً وأرسلها إلى الحمى حتى سمنت، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ.. بخ.. ابن أمير المؤمنين، ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى، أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: فيقولون: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد إلى رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.[سنن البيهقي؛ وتاريخ دمشق] .
موقف في غاية الورع والزهد، والمحافظة على المصالح العامة، وعدم تقديم المصالح الخاصة عليها، وفي الحقيقة أن السيرة النبوية الشريفة، وسيرة الخلفاء الراشدين زاخرة بهذه المواقف المضيئة، والمشرقة في سماء المجتمع المسلم، ولا شك أن هذا سر عظيم، ومفتاح أساس في المحافظة على المجتمع، وتطوره، والرقي به، فحينئذ نحن بحاجة ماسة جداً للعودة الصادقة إلى سيرة سلف الأمة، وتلمس أسرار نجاحها، وتفوقها حتى نستطيع أن نعيد للأمة مجدها وعزها.
ومن هنا كان فضل العلم والدعوة إلى الله أعظم أجراً من الانقطاع إلى العبادة مرات ومرات:
لذلك قرر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام، ولأن تفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة ! ، فقدم العمل المتعدي نفعه إلى الغير؛ على العمل القاصر نفعه على صاحبه، فقيامه بتعليم الناس أولى من العبادة، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره، وهذا الذي جعل الشيطان يفرح بموت العلماء أكثر مما يفرح بموت العباد .
فروي أن جنود الشيطان جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف العُبَّاد؟!!! فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق، لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بموت الواحد من العلماء. قال: نعم أنا أدلكم على هذا، فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السماوات في جوف بيضة؟ قال العابد:
لا. وهذا جهل كبير. ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السماوات في بيضة؟. قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فإذا قال للسماوات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال الشيطان لجنوده: انظروا الفرق بين هذا وهذا.
وهكذا ظهر لنا بوضوح أهمية تقديم المصلحة العامة على الخاصة ؛ لأن نفع الملكية الخاصة يعود على الشخص نفسه فقط ؛ أما نفع الملكية العامة فإنه يعود على جميع أفراد الأمة .
العنصر الثاني: صور مشرقة من حماية الملكية العامة في الإسلام
عباد الله: إن للمال العام أهمية كبرى في الإسلام ؛ فالمال العام أعظم خطراً من المال الخاص الذي يمتلكه أفراد أو هيئات محددة، ذلك لأن المال العام ملك الأمة وهو ما اصطلح الناس على تسميته ” مال الدولة ” ، ويدخل فيه: الأرض التي لا يمتلكها الأشخاص، والمرافق، والمعاهد والمدارس، والمستشفيات، والجامعات غير الخاصة، .. ، وكل هذا مال عام يجب المحافظة عليه، ومن هنا تأتي خطورة هذا المال، فالسارق له سارق للأمة لا لفرد بعينه، فإذا كان سارق فرد محدد مجرماً تقطع يده إن كان المسروق من حرز وبلغ ربع دينار فصاعداً، فكيف بمن يسرق الأمة ويبدد ثرواتها أو ينهبها ؟! كيف تكون صورته في الدنيا وعقوبته في الآخرة ؟!
لهذا كان سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – حريصين أشد الحرص على المال العام .
فهذا أبوبكر الصديق لما بويع للخلافة حدد له الصحابة راتبه من بيت المال، ثم سلَّموه لقحة :”ناقة ذات لبن” ، وجفنة: “وعاء يوضع فيه الطعام”، وقطيفة: ” تلبس ويلف فيها من البرد”، هذه عدة قصر الحاكم خليفة رسول الله، فلما حضرته الوفاة أمر بردها، فعنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ:
«يَا عَائِشَةُ انْظُرِي اللِّقْحَةَ الَّتِي كُنَّا نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا، وَالْجِفْنَةَ الَّتِي كُنَّا نَصْطَبِحُ فِيهَا، وَالْقَطِيفَةَ الَّتِي كُنَّا نَلْبَسُهَا، فَإِنَّا كُنَّا نَنْتَفِعُ بِذَلِكَ حِينَ كُنَّا فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا مِتُّ فَارْدُدِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ» أَرْسَلْتُ بِهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَضِيَ اللهُ عَنْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ” ( الطبراني؛ وقال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات ).
-ومن هذه الصور ما رواه عبد الرحمن بن نجيح قال:
نزلت على عمر ، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبناً أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقينى نارًا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل: هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها. فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر ، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، بل انظر كيف فرَّق- بحلاوة إيمانه ومذاقه- بين طعم الحلال وبين ما فيه شبهة.
– وما أجمل هذه الصورة التي حدثت مع أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه حيث دخلت عليه ذات يوم عمته تطلب زيادة على راتبها من بيت مال المسلمين، وإذا به يأكل عدسًا وبصلاً، فلما كلمته في شأنها، قام عن طعامه وجاء بدراهم من فضة ووضعها على النار، ثم وضعها فى كيس، وقال لها خذي هذه الزيادة، فما إن قبضت عليه حتى طرحته أرضًا لاحتراق يدها من شدة الحرارة، وكاد يغشى عليها، وقال لها عمر رضى الله عنه:
يا عمتاه؛ إذا كان هذا حالك مع نار الدنيا، فكيف بنار الآخرة؟! وما أنا إلا عبد استودعه الله على خلق من خلقه، وخازن لبيت مال المسلمين أُسأَلُ عن كل درهم فيه يوم القيامة، فكيف يكون حالي في ذلك اليوم إذا أنا أعطيتك درهمًا واحدًا على باقي الرعية؟!!”.
– ومن ذلك قصة عاتكة زوجة عمر والمسك :
فقد قدم على عمر مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك. قال: لا. قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا -وأدخل أصابعه في صدغيه- وتمسحي به عنقك فأصيب فضلاً على المسلمين!!
فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر واحتياطه البالغ لأمر دينه، فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئًا من مال المسلمين، وهذه الدقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات أعطاها الله لأوليائه السابقين إلى الخيرات، وجعلها لهم فرقاناً يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل، بينما تفوت هذه الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات!!!
ومن هذه الصور أيضاً ، منع جر المنافع بسبب صلة القربى به :
فعن أسلم قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، ها هنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، وأسلفكما، فتبيعان به متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما الربح. ففعلا، وكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال. فلما قدما على عمر قال:
أكلَّ الجيش أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال عمر: أدّيا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، لو هلك المال أو نقص لضمناه. فقال: أديا المال. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً (شركة). فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال. قالوا: هو أول قراض في الإسلام!!
أحبتي في الله: الأمثلة على ذلك كثيرة وحسبي ما ذكرت، وأترك لكم التعليق والعبرة والعظة، والمقارنة بين حال هؤلاء الأخيار؛ وواقعنا المعاصر وما يحدث فيه من مجاملات ورشاوى واختلاس وسرقة للمال العام، وكأنه أصبح غنيمة للطامعين!!
أيها المسلمون:
إن تشريع الإسلام لحماية الملكيتين الخاصة والعامة له علاقة وثيقة بأمن البلاد والعباد، فإذا آمن الفرد بأن ملكيته مصونة ومحترمة، وأن جميع طرق العدوان محرمة في الشريعة الإسلامية، فإن الفرد يأمن على ماله وعرضه، ويؤدي ذلك إلى علاقة ود ومحبة وتواد بين أفراد المجتمع وإلى استقرار وسلامة المجتمع من كل خوف أو رعب أو تهديد.
أما إذا ترك الحبل على الغارب وأصبحت الأموال الخاصة والعامة فريسةً للطامعين، ونهباً للمعتدين، فلا شك أن يصاب المجتمع بتفكك أوصاله، وهدم بنيانه، وزلزال كيانه، ويصبح الفرد في رعب دائم، وقلق مفزع، فلا هو تمتع بماله، ولا اطمأن في مقامه، كيف لا وهو يخشى الاعتداء على ماله كما تخشى الأسد من أن تلتهم فريستها؟!!!
العنصر الثالث : خطورة الفتوى في شئون المسلمين بغير علم
أيها المسلمون: إن مما عمت به البلوى في زماننا هذا الفتوى بغير علم والحديث في الشأن العام عن جهل؛ فالكل يتحدث فيما لا يعنيه ؛ فتجد كثيراً من العامة يفتي بعضهم بعضاً بما لا يعلمون فيقولون: هذا حلال أو حرام أو واجب أو غير واجب وهو لا يدري عن ذلك! أفلا يعلم هذا الرجل أنه موقع عن الله ورسوله في هذه الفتوى؟!
يقول الإمام محمد بن المنكدر: إن العالم بين الله تعالى وبين خَلْقه؛ فلينظُرْ كيف يدخل بينهم! وليعلم أن الله سائله عما قال يوم القيامة! أفلا يعلم أنه إذا أضل شخصا فأحل له ما حرم الله أو حَرَمه مما أحلّ الله له فقد باء بإثمه وكان عليه مثل وزر ما عمله من إثم بسبب فتواه؟!
إن الفتوى بغير علم من أخطر المصائب والمحن التي ابتليت بها الأمة في عصرنا هذا ؛ ولقد بكى سلفنا الصالح بكاءً مريراً من التصدي للفتوى بغير علم !!
يقول الإمام مالك – رحمه الله تعالى: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له!!
أحبتي في الله: إن الصحابة والسلف الصالح – رضي الله عنهم أجمعين – كانوا أعلم الناس بالحلال والحرام ؛ وكان عصرهم خير العصور والقرون بشهادة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومع ذلك كانوا يتحرجون من الفتوى لخطورتها ومسئوليتها أمام الله عز وجل .
يقول أبو بكرٍ رضي الله عنه:
” أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم”؟! وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ بِهِ ; وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ : ” اللَّهُ أَعْلَمُ ” فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ }(البخاري ومسلم)”، وروى الدراميُّ في سننه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال في خطبته: “مَن علِم علمًا فليعلِّمْه الناس، وإياه أن يقول ما لا علم له به، فيمرُقَ مِن الدِّين، ويكون من المتكلفين”.
من هنا تكمن خطورة الفتوى؛ لذلك هاب الفتوى أكابرُ العلماء، على الرغم من علمهم الوفير، وعملهم بهذا العلم، ولم تدفعهم شهرتهم الواسعة إلى التجرؤ على الفتوى، فلا يتحرج أحدهم من قول: لا أدري إن كانت المسألة معضِلة، أو يؤخر الجواب إلى حين البحث عنها، فقد روى الإمام ابن المبارك في الزهد بسند صحيح عن عبدالرحمن بن أبي ليلي قال:
“أدركتُ عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – أراه قال:
في هذا المسجد – فما كان منهم محدِّث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا”. وورد عن أبي حصين عثمان بن عاصم ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: “إن أحدَكم ليُفتي في المسألة، ولو وردَتْ على عمر رضي الله عنه لجمَع لها أهل بدرٍ”، وذكر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر الأندلسي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهم: أن رجلًا جاءه ليسأله عن مسألة، فقال القاسم: لا أُحسِنه، فقال الرجل: إني لا أعرف أحدًا غيرك، فقال القاسم:
لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أُحسِنه، فقال شيخ من قريش كان جالسًا: يا بنَ أخي، الزَمْها؛ فوالله ما رأيتك في مجلس أنبلَ منك اليوم، قال القاسم: والله لأن يُقطَعَ لساني أحبُّ إليَّ مِن أتكلم بما لا علم لي به، ورُوي عن الشافعي ـ رحمه الله ـ أنه سئل عن مسألة فسكَت، فقيل له: ألا تُجيب رحمك الله؟، فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أم في الجواب!، وكان الإمام أحمدُ بن حنبل ـ رحمه الله ـ على غزارة علمه يستفتى، فيُكثر مِن قول: لا أدري. ( إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم).
وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول:
ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أَهْلٌ لذلك؛ يعني سبعين من أهل العلم!! ومع ذلك لا يفتي في كل ما يُسأل عنه؛ وكان إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: لا أدري! فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: لا أدري!! قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس:
سألت مالكًا؟ وقال: لا أدري!! ( سير أعلام النبلاء ). وهذا ابـن عمر – رضي الله عنهما – يُسْأَلُ عن عشر مسائل فَيُجِيبُ عن واحدةٍ ويَسْكُتُ عَن تِسْعٍ!! وعن عقبةَ بن مسلم قال: صحبتُ ابن عمر رضي الله عنهما أربعةً وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسأَل فيقول: لا أدري، ثم يلتَفتُ إليَّ فيقول: تَدري ما يريدُ هؤلاء؟! يريدون أن يجعلوا ظهورَنا جِسرًا إلى جهنّم!! وسئل الشعبي مرة عن مسألة فقال: لا عِلْمَ لي بها، فقيل له: ألا تستحي، فقال: ولم أستحي مما لم تستحِ الملائكة منه حين قالت: { لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}. [البقرة: 32].
أيها المسلمون:
إن الذي يعرِّض نفسه للفتوى لا بد أن يعلم يقينًا أنه سيحاسب عن كلِّ ما يتكلم به، فإذا أفتى بغير علم، أو أفتى بخلاف ما هو صواب، لهوًى، أو لغرَضٍ، أو لتحقيق دنيا عاجلة – إنما يُقحِم نفسه وغيره في الويل والهلاك .
وقد أنكر النبي – صلى الله عليه وسلم – على من أفتوا رجلاً بغير وعي مما أدى إلى هلاكه وموته ؛ فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ َعلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ » ( أبوداود وابن ماجة بسند حسن ) .
فانظر كيف كانت الفتوى الخاطئة هلاك الرجل وموته ؟!!
فينبغي على كل مستفت أن يسأل أهل الفتوى المتخصصين ؛ وإنك لتعجَب كل العجب ممَّن يبحث عن الطبيب الحاذق ليعالجه، والمهندس الماهر ليرسم له ويخطط، والمحامي حاضر الذهن ليدافع عنه، أما إذا تعلق الأمر بالدين فالتساهل يكون سائدًا، وتتبُّع الرُّخَص يكون هو الغالب!!! ولو أن شخصا سأل عن طريق بلد من البلدان فقلت:
الطريق من هنا وأنت لا تعلم لعد الناس ذلك خيانة منك وتغريراً، فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئا ؟!! لذلك ينبغي علينا أن نسأل أهل العلم وأهل الذكر المتخصصين؛ استجابة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل:43]. وأهل الذكر هم العلماء، والذكر هو الوحي.
وبمناسبة هذه الآية الكريمة ؛ يحضرني قصة وموقف نبيل مع أحد علمائنا الأجلاء حينما سافر إلى بلاد الغرب فسأله أحدهم: أنتم تقولون أن كل شئ مذكور في القرآن. قال: نعم. قال: ائتني بدليل من القرآن أن هذا الشوال من الدقيق يصنع منه كم رغيف من الخبز ؟! قال له العالم: ائتني بخبّاز . فأتاه الرجل بالخباز فسأله العالم. فأجابه الخباز . فقال: أنت سألت الخباز ولم تأت بدليل من القرآن؛ قال: أتيت بدليل من القرآن. ألم تقرأ قوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) .
هذا أهل الذكر في مجاله؛ فسكت الخصم ولم يرد .
وهكذا أيها المسلمون : إذا تحلينا بخلق الإيثار وقدمنا المصلحة العامة التي تنفع الأمة ؛ على مصالحنا الخاصة الشخصية ؛ وتكاتفنا جميعاً في الحفاظ على الملكية العامة والمال العام ؛ وأتقنا عملنا كلٌ في تخصصه ووظيفته ؛ وعرف كل فرد واجبه فلم يقصر فيه ؛ وما له من حق فلا يأخذ أكثر منه ؛ فإننا بذلك ننشد مجتمعاً فاضلاً تسوده روابط المحبة والإخاء والتعاون ؛ فنعيش في أمن وأمان وسلام ورخاء .
نسأل الله أن يحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء ؛؛؛؛؛
الدعاء،،،،، وأقم الصلاة،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف